أحداث إم درمان .. قراءة في الأبعاد والدلالات
أفردت صحيفة الأهرام القاهرية والأحداث السودانية مقالاً مطاولاً للأستاذ هانئ رسلان رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل متناولاً فيه أحداث أمدرمان الأخيرة والانعكاسات للانقسام الحاد الذي وقع في صفوف الإنقاذ.. قراءة في الأبعاد والدلالات.
نقلاُ عن صحيفة الأهرام القاهرية والأحداث السودانية
القاهرة : صلاح خليل
هانئ رسلان
سيظل يوم السبت العاشر من مايو الذى شهد هجوم حركة العدل والمساواة الدارفورية على ام درمان محفورا فى ذاكرة العاصمة السودانية الخرطوم ومقترنا بمشاعر ملؤها القلق والترقب، وذلك الى جانب أيام أخرى قليلة فى التاريخ الحديث للعاصمة المثلثة ، كان من بينها يوم الجمعة الأسود الذي أعقب مقتل الزعيم الجنوبى جون قرنق، الا انه اكثر شبها بيوم اخر بعيد نسبيا يعود الى اكثر من ثلاثين عاما، حين قامت قوات الجبهة الوطنية المعارضة فى يوليو 1976 بغزو مماثل للخرطوم منطلقة من الحدود الليبية السودانية لمحاولة إسقاط نظام الرئيس الأسبق جعفر نميرى، وقد يقود هذا الى قول البعض " ما أشبة اليوم بالبارحة" ، الا ان الفوارق بين اليومين هائلة للغاية وان اتفقا فى وحدة الهدف وهى اسقاط النظام ، فمحاولة 76 كانت تعبر عن إجماع قطاع واسع من القوى السياسية الأساسية فى البلاد ضمت الى جوار حزب الامة كل من الحزب الاتحادى والحركة الاسلامية الحديثة ، غير أن تحرك العدل والمساواة يختلف فى انه جاء معزولا من الناحية السياسية بشكل كامل، حيث انه لم يعبر سوى عن فصيل واحد من دارفور متجاهلا كل الفصائل الاخرى، كما انه جاء محمولا على تعبئة ذات طبيعة قبلية وجهوية تعتمد على تجييش مشاعر وعواطف سلبية، مكرسا بذلك أسسا قوية للصراع الاجتماعي الممتد اكثر من اعتماده على أهداف وآليات ووسائل ذات طبيعة سياسية وإفق قومى أو وطنى.
ومما يزيد من خطورة هذه المسألة، أن خليل إبراهيم فى محاولته لتقديم تبرير لما قام به ارتد الى تفسيرات قبلية وجهوية صريحة ومباشرة ، اذ سعى عبر التصريحات التى ادلى بها للفضائيات من داخل ام درمان على كسب تعاطف ابناء دارفور وتكريس نفسه مدافعا عنهم، من خلال التشديد على ان الهجوم كان انتقاما لمعاناتهم، وهو لا يدرى انه بذلك يهدم الاساسى الاخلاقى لحركته، ويثبت عدم صدق ما كانت تعلنه من قومية توجهاتها ورؤاها، ويفتح بابا جديدا فى السياسة السودانية يحاول تقويض بنية وطبيعة الدولة القائمة فى السودان ويرتد بها من صرا عات سياسية حول الرؤى والسياسات اللازمة للتحديث والتكامل الوطنى ودفع التنمية ومحاولة الخروج من ازمة الهوية، الى عهد جديد يتم الصراع فية عبر العودة الى الانتماءات الأولية، مناطقية كانت او قبلية، والأكثر خطورة ان يتم الاستسلام لهذا النوع من الخطابات المفخخة التى قد تقود الى تفكك الدولة السودانية بحدودها الحالية، وفى اعتقادى ان هذه هى الدلالة الاكثر عمقا للهجوم على ام درمان، فما حدث لم يكن تهديدا للنظام القائم فقط بل كان فى الحقيقة استهدافا لبنية وطبيعة الدولة فى السودان.
وفيما يتعلق بملابسات الهجوم والدلالات التى يمكن استخلاصها، فانه تجدر الاشارة هنا الى أن احدى الخصائص الأساسية التى بدت واضحة للعيان منذ البداية هى وجود دور خارجى، فالهجوم بالطريقة والكيفية التى تم بها ، بواسطة اكثر من 300 سيارة دفع رباعى مجهزة بالمدافع ومضادات الطيران بالاضافة الى مضادات الدروع وصواريخ سام 7 ، فضلا عن اجهزة اتصال حديثة ودعم لوجستى بالوقود والتمويل المالى ، يفوق بكثير قوة وقدرة حركة العدل والمساوة، الامر الذى يثبت الدور التشادى ، وربما ادوار اخرى لم يتم الكشف عنها بعد.
كما نستطيع القول أن الفشل الاكير لحركة العدل والمساواة لم يتمثل فى العمل العسكرى فى حد ذاته، بقدر ما تمثل فى تعريفها للهدف النهائى للهجوم بانه اسقاط النظام والاستيلاء على السلطة، وقد تأكد ذلك عبر دخول قادة الحركة مع القوات المهاجمة لتقديم انفسهم باعتبارهم قادة النظام الجديد، وعبر محاولات التطمين التى قدموها للحركة الشعبية بانهم سوف يحترمون اتفاقية نيفاشا، وبذلك بدا هذا الهجوم باعتباره عملا طائشا ومندفعا ويمثل مغامرة فاشلة تم ايقافها ثم تصفيتها خلال ثلاث ساعات، ونتجت عنه خسائر عسكرية وسياسية فادحة لحركة العدل، وهذا يختلف بشكل كامل عما لو تم تحديد هدف الهجوم بانه توجية رسالة خاطفة ذات دلالات سياسية واعلامية لتحريك عملية التسوية او تعزيز مكانة حركة العدل فيها ، اذ ان هذه الاهداف كانت سوف تتحقق بمجرد وقوع الهجوم ووصوله الى ضواحى ام درمان سواء استطاعت القوة المهاجمة الانسحاب من عدمه .
وفى هذا السياق يمكن- من احد الاوجه- القول ان ما قامت به حركة العدل واندفاعها الهائل وغير العقلانى لتنفيذ هذا الهجوم يعد احد الانعكاسات أو ردود الفعل المتأخرة للانقسام الذى وقع فى صفوف نظام الانقاذ عامى 1999 و2000 ، ويمثل انعكاسا للضغائن التى صاحبت هذا الانقسام، فخليل ابراهيم الذى كان قياديا نشطا فى التنظيم الاسلامى ومسئولا عن قطاع دارفور، انحاز الى الترابى عند وقوع الانشقاق، وبقى فاعلا فى صفوف المؤتمر الشعبى الى ان اعلن خروجه الى العمل المسلح ، والامر نفسه ينطبق على عدد كبير من قيادات الحركة، وهذا ما يفسر رغبتهم الشديدة فى الانتقام من رفاقهم السابقين، وربما يفسر ايضا بعض مناحى القوة والتنظيم اللذين اتسم بهما الهجوم .
كما ان هروب خليل ابراهيم بعد ان تم تدمير القوة وقتل واسر معظم عناصرها يوضح انه تلقى المساعدة على الهرب عبر شبكة منظمة ومدربة وكانت متاهبة لتقديم هذه المساعدة من داخل المدينة ، بالاضافة الى المساعدات التى تلقتها القوة المهاجمة عند دخولها لتفادى اماكن تمركز القوات التى خرجت لملاقاتها، وهذا يثير التساؤل عما اذا كان هناك ترتيبات للدعم او الاسناد من الداخل لم يتم الكشف عنها.
على المستوى الداخلى فان الادانات السريعة والمواقف القوية التى اتخذتها كل من الحركةالشعبية وحزبى الامة والاتحادى، اشارت الى اعادة اصطفاف جديد للقوى الساسية السودانية، خاصة وان هناك حالة مخاض لتحول ديمقراطى بدأت مؤشراته العملية فى الظهور. وقد عزز من مواقف القوى السياسية الرئيسية موقف الادانة والرفض العنيف من الراى العام السودانى الذى اتسم بقدر كبير من السخط على ما قامت به حركة العدل.
على المستويين العربى والاقليمى كان للموقف المبدأى الواضح والسريع لمصر بالادانة منذ اللحظة الاولى، ثم الموقف القوى للجامعة العربية من هذه المحاولة وتصنيفها بانها ارهابية، اثر كبير فى دعم الاستقرارفى السودان .
غير ان اللافت للنظر هو الإدانة القوية أيضا من المجتمع الدولى ممثلا فى مجلس الأمن، ومن الاتحاد الافريقى ومن جهات غربية عديدة ، الامر الذى قد يعيد الى ازمة دارفور بعض التوازن فى المعالجات المفضية الى الحل ، بعد ان تأكدت خطورة الدعم اللامحدود والتدخلات الخارجية التى انفلت عقالها
أفردت صحيفة الأهرام القاهرية والأحداث السودانية مقالاً مطاولاً للأستاذ هانئ رسلان رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل متناولاً فيه أحداث أمدرمان الأخيرة والانعكاسات للانقسام الحاد الذي وقع في صفوف الإنقاذ.. قراءة في الأبعاد والدلالات.
نقلاُ عن صحيفة الأهرام القاهرية والأحداث السودانية
القاهرة : صلاح خليل
هانئ رسلان
سيظل يوم السبت العاشر من مايو الذى شهد هجوم حركة العدل والمساواة الدارفورية على ام درمان محفورا فى ذاكرة العاصمة السودانية الخرطوم ومقترنا بمشاعر ملؤها القلق والترقب، وذلك الى جانب أيام أخرى قليلة فى التاريخ الحديث للعاصمة المثلثة ، كان من بينها يوم الجمعة الأسود الذي أعقب مقتل الزعيم الجنوبى جون قرنق، الا انه اكثر شبها بيوم اخر بعيد نسبيا يعود الى اكثر من ثلاثين عاما، حين قامت قوات الجبهة الوطنية المعارضة فى يوليو 1976 بغزو مماثل للخرطوم منطلقة من الحدود الليبية السودانية لمحاولة إسقاط نظام الرئيس الأسبق جعفر نميرى، وقد يقود هذا الى قول البعض " ما أشبة اليوم بالبارحة" ، الا ان الفوارق بين اليومين هائلة للغاية وان اتفقا فى وحدة الهدف وهى اسقاط النظام ، فمحاولة 76 كانت تعبر عن إجماع قطاع واسع من القوى السياسية الأساسية فى البلاد ضمت الى جوار حزب الامة كل من الحزب الاتحادى والحركة الاسلامية الحديثة ، غير أن تحرك العدل والمساواة يختلف فى انه جاء معزولا من الناحية السياسية بشكل كامل، حيث انه لم يعبر سوى عن فصيل واحد من دارفور متجاهلا كل الفصائل الاخرى، كما انه جاء محمولا على تعبئة ذات طبيعة قبلية وجهوية تعتمد على تجييش مشاعر وعواطف سلبية، مكرسا بذلك أسسا قوية للصراع الاجتماعي الممتد اكثر من اعتماده على أهداف وآليات ووسائل ذات طبيعة سياسية وإفق قومى أو وطنى.
ومما يزيد من خطورة هذه المسألة، أن خليل إبراهيم فى محاولته لتقديم تبرير لما قام به ارتد الى تفسيرات قبلية وجهوية صريحة ومباشرة ، اذ سعى عبر التصريحات التى ادلى بها للفضائيات من داخل ام درمان على كسب تعاطف ابناء دارفور وتكريس نفسه مدافعا عنهم، من خلال التشديد على ان الهجوم كان انتقاما لمعاناتهم، وهو لا يدرى انه بذلك يهدم الاساسى الاخلاقى لحركته، ويثبت عدم صدق ما كانت تعلنه من قومية توجهاتها ورؤاها، ويفتح بابا جديدا فى السياسة السودانية يحاول تقويض بنية وطبيعة الدولة القائمة فى السودان ويرتد بها من صرا عات سياسية حول الرؤى والسياسات اللازمة للتحديث والتكامل الوطنى ودفع التنمية ومحاولة الخروج من ازمة الهوية، الى عهد جديد يتم الصراع فية عبر العودة الى الانتماءات الأولية، مناطقية كانت او قبلية، والأكثر خطورة ان يتم الاستسلام لهذا النوع من الخطابات المفخخة التى قد تقود الى تفكك الدولة السودانية بحدودها الحالية، وفى اعتقادى ان هذه هى الدلالة الاكثر عمقا للهجوم على ام درمان، فما حدث لم يكن تهديدا للنظام القائم فقط بل كان فى الحقيقة استهدافا لبنية وطبيعة الدولة فى السودان.
وفيما يتعلق بملابسات الهجوم والدلالات التى يمكن استخلاصها، فانه تجدر الاشارة هنا الى أن احدى الخصائص الأساسية التى بدت واضحة للعيان منذ البداية هى وجود دور خارجى، فالهجوم بالطريقة والكيفية التى تم بها ، بواسطة اكثر من 300 سيارة دفع رباعى مجهزة بالمدافع ومضادات الطيران بالاضافة الى مضادات الدروع وصواريخ سام 7 ، فضلا عن اجهزة اتصال حديثة ودعم لوجستى بالوقود والتمويل المالى ، يفوق بكثير قوة وقدرة حركة العدل والمساوة، الامر الذى يثبت الدور التشادى ، وربما ادوار اخرى لم يتم الكشف عنها بعد.
كما نستطيع القول أن الفشل الاكير لحركة العدل والمساواة لم يتمثل فى العمل العسكرى فى حد ذاته، بقدر ما تمثل فى تعريفها للهدف النهائى للهجوم بانه اسقاط النظام والاستيلاء على السلطة، وقد تأكد ذلك عبر دخول قادة الحركة مع القوات المهاجمة لتقديم انفسهم باعتبارهم قادة النظام الجديد، وعبر محاولات التطمين التى قدموها للحركة الشعبية بانهم سوف يحترمون اتفاقية نيفاشا، وبذلك بدا هذا الهجوم باعتباره عملا طائشا ومندفعا ويمثل مغامرة فاشلة تم ايقافها ثم تصفيتها خلال ثلاث ساعات، ونتجت عنه خسائر عسكرية وسياسية فادحة لحركة العدل، وهذا يختلف بشكل كامل عما لو تم تحديد هدف الهجوم بانه توجية رسالة خاطفة ذات دلالات سياسية واعلامية لتحريك عملية التسوية او تعزيز مكانة حركة العدل فيها ، اذ ان هذه الاهداف كانت سوف تتحقق بمجرد وقوع الهجوم ووصوله الى ضواحى ام درمان سواء استطاعت القوة المهاجمة الانسحاب من عدمه .
وفى هذا السياق يمكن- من احد الاوجه- القول ان ما قامت به حركة العدل واندفاعها الهائل وغير العقلانى لتنفيذ هذا الهجوم يعد احد الانعكاسات أو ردود الفعل المتأخرة للانقسام الذى وقع فى صفوف نظام الانقاذ عامى 1999 و2000 ، ويمثل انعكاسا للضغائن التى صاحبت هذا الانقسام، فخليل ابراهيم الذى كان قياديا نشطا فى التنظيم الاسلامى ومسئولا عن قطاع دارفور، انحاز الى الترابى عند وقوع الانشقاق، وبقى فاعلا فى صفوف المؤتمر الشعبى الى ان اعلن خروجه الى العمل المسلح ، والامر نفسه ينطبق على عدد كبير من قيادات الحركة، وهذا ما يفسر رغبتهم الشديدة فى الانتقام من رفاقهم السابقين، وربما يفسر ايضا بعض مناحى القوة والتنظيم اللذين اتسم بهما الهجوم .
كما ان هروب خليل ابراهيم بعد ان تم تدمير القوة وقتل واسر معظم عناصرها يوضح انه تلقى المساعدة على الهرب عبر شبكة منظمة ومدربة وكانت متاهبة لتقديم هذه المساعدة من داخل المدينة ، بالاضافة الى المساعدات التى تلقتها القوة المهاجمة عند دخولها لتفادى اماكن تمركز القوات التى خرجت لملاقاتها، وهذا يثير التساؤل عما اذا كان هناك ترتيبات للدعم او الاسناد من الداخل لم يتم الكشف عنها.
على المستوى الداخلى فان الادانات السريعة والمواقف القوية التى اتخذتها كل من الحركةالشعبية وحزبى الامة والاتحادى، اشارت الى اعادة اصطفاف جديد للقوى الساسية السودانية، خاصة وان هناك حالة مخاض لتحول ديمقراطى بدأت مؤشراته العملية فى الظهور. وقد عزز من مواقف القوى السياسية الرئيسية موقف الادانة والرفض العنيف من الراى العام السودانى الذى اتسم بقدر كبير من السخط على ما قامت به حركة العدل.
على المستويين العربى والاقليمى كان للموقف المبدأى الواضح والسريع لمصر بالادانة منذ اللحظة الاولى، ثم الموقف القوى للجامعة العربية من هذه المحاولة وتصنيفها بانها ارهابية، اثر كبير فى دعم الاستقرارفى السودان .
غير ان اللافت للنظر هو الإدانة القوية أيضا من المجتمع الدولى ممثلا فى مجلس الأمن، ومن الاتحاد الافريقى ومن جهات غربية عديدة ، الامر الذى قد يعيد الى ازمة دارفور بعض التوازن فى المعالجات المفضية الى الحل ، بعد ان تأكدت خطورة الدعم اللامحدود والتدخلات الخارجية التى انفلت عقالها