البوابة
أحدث الصور
من طرف أبو عبيدة البصاص الأحد 25 يناير 2009, 3:52 pmلم
يكن يشغل باله شيئاً لحظتها .. وهو يترحَّل من أم درمان الى الخرطوم .. وفي موقف
الشهداء صعد الى إحدى الحافلات .. وأصوات المنادين تتقاطع ، جلس قرب النافذة وأخذ
يتأمل الوجوه وتفاصيل العابرين كعادته .. محاولاً قراءة اللحظات الشعورية التي
تحكم تقاسيم الوجوه .. يتوحد مع هذا وينفر من ذاك .. وفي قمة إستغرافه في تفحص
الملامح وقراءت الانفعالات .. أتت من البعيد تختال في مشيتها برفقة أختها ؟؟..
صديقتها ؟؟... لكنها أتت وهي تتجه الى صوب ذات الحافلة .. التي كان يجلس بجوار
نافذتها .. فتسمرت نظراته بها .. كانت فاتنة وملامح لم تفقد بعد براءات الطفولة ..
مازال بريق الدهشة يلون عينيها .. وهي تنقلها في مختلف الإتجاهات بغير قصد او تعمد
.. صعدتا ذات الحافلة وجلستا في مقعد دبرته لهما يد القدر .. بحيث يستطيع أن
يراهما بكل وضوح .. وكانت هي بذلك الفضول البري تنقل عينيها مابين الوجوه والأشياء
.. وكانتا تشعان غبطة وحبور ..
وكعادة
كل الفتيات لابد أن يطلقن التعليقات على كل مايمر أمامهن من تفاصيل ومشاهد ..
ويتساررن بتلك الاحاديث التي لاتتعدى عوالمهن .. وكانت الحافلة قد أخذت تتحرك صوب
الخرطوم .. في طريق متعرج وكل بضع دقائق لتقل راكباً أو تنزل آخر .. ومازال هو
مشدوهاً الى ذلك الجمال الملائكي والى تلك البرأة في أنقى حالاتها .. وبينما هو
كذلك حتى تلتفت هي الى رفيقتها .. وتحركت شفتاها بدون أن تصدر صوتاً .. وإنطلقت
يديها في حراكاً مختلف أشكاله لتتقاطع في تشكيلاتى متنوعه.. تتجمع حيناً وتتفرق حيناً آخر لترسم بها علامات
على سطح القمر .. أقصد وجهها القمر .. في لغة إشارات يستعين بها أصحاب الحاجات
الخاصة .. وبها كانت أحاديثها الفتاة القمر مع رفيقتها .. التي كانت ترد عليها
بسلالة إنسيابية وبعد كل فترة تنطلق منهن ضحكات خافتة وبرئية .. وبينما هو مازال
يتأملهن ويتابع ذلك الحوار الصامت الغني ..
وسرح
بخياله بعيداً وأخذ يفكر في ذلك التواصل المنسجم بينهن .. وقد أسقطت منه المفردة
المنطوقة وأستعيض عنها بالإشارات لغة الحديث والسمر بينهن .. وقد كانت عالية
الإيصال والتواصل .. وأخذ يتسأل إن كانت المفردات المنطوقة المكتوبة هي وحدها
تستطيع أن تحتوي كل فيضانات إنفعالاتنا .. وبها نتواصل مع الآخرين .. كما بها ننظم
الأشعار وبها نوثق لحياتنا نثراً وأدباً
.. وبها نعبِّر عن حبنا الجارف وبها نوصل بغضنا الحارق.. ترى هل لغة الإشارات
تستطيع أن تحتوي كل ما إحتوته لغتنا المكتوبة المنطوقة .. وحاول أن يجيب على نفسة
إجابة استنتاجية فلسفية بأن لغته كامله .. لكن الواقع امامه يرد عليه بقوة من خلال
ذلك التواصل العالي الذي توفره لغة الإشارات .. لتلك الفتاة القمر ورفيقتها وما
يعضده تلك الضحكات الخافتة الخجولة .. التي تماثل شلالات من الوان الفرح ..
وأخذ
يتسأل هل يمكن بتلك الإشارات أن يوجد في مجتمعاتهم .. التي أُسقطت عنها مملكة
الحرف المكتوبة المنطوقة .. مَن ينظمون الأشعار وينثرون الأدب واخذت أفكاره تتناقل
في مد وجذر إستعرضت كل التقاطعات الشعورية والإبداعية التي كانت نتاج مملكة الحرف
وإمكانية وجودها وثرائها في مجتمعات لغة الإشارة .. ومازالت هي تشع كانها جذوة من
بريق آتي من كوكب بعيد .. كما إنها كانت فكِهة فصيحة الأنامل في عوالم لغة الإشارة
.. مما يجعل رفيقتها تستغرق في نوبات من الضحك المتواصل .. بينما هي تكتفي بتلك
الابتسامة الرقيقة .. وبينما هو في غمرة إستغرافه في تلك الافكار المجنونة .. والتامل
المفضي الى عوالم من الجمال المطلق والإستفهامات اللا نهائية .. لم ينتبه الى وصول
حافلته لمحطتها الآخيرة .. فترجل عنها وترجلن أيضاً وسارتاً حتى إحتوتهما أمواج
الأجساد البشرية المتحركة في تلك المحطة في حين أخذت نظراته ترافقهن حتى تواريتا
خلف الزحام ومازالت الأسئلة تتوالى في مخيلته ومازال ذلك الوجه الملائكي يترآى
أمام عينيه بكامل تقاسيمه ...
عفواً لحظه :
دفع الله رايك شنو
نعمل فيها ادباء ونفكها في نفسنا
البصاص