منقول من مجلة الكوثر/ العدد 28 / فبراير 2002م
الكاتب: دفع الله محمد نور
قبيلة الدينكا
تعتبر قبيلة الدينكا من أكبر القبائل السودانية إذ تمثل 11% من مجموع سكان السودان , أي حوالي 3 ملايين نسمة , وتشكل نسبة تتراوح ما بين 40% و 50% من شعب جنوب السودان وهي أكبر المجموعات النيلية.
أصل الدينكا :
ترجع الأساطير أصل الدينكا إلي ( قرنق ) الذي له ولدان هما : ( دينق ) و ( أبيدنق ) حيث يستبشرون بدينق ويعزون له الخير والمطر , وهو أصل القبيلة التي تفرعت بطون . وهناك أسطورة أخري تقول : إن جد الدينكا يسمي ( دينج دين ) وتعني بلغة القبيلة : ( ربنا الكبير ) – زعموا أنه في زمن من الأزمان السحيقة , تلبدت السماء بغيوم كثيفة ولمعان برق , وقصف رعد , وعم ظلام دامس , فانهمرت أمطار غزيرة , وفي لحظة معينة , لمع برق مضي بدد كل الظلمات مصحوبا بصوت وكلام مع انهمار الأمطار والغزيرة , فانزلق من خلال المشهد فتاة ممشوقة القوام , فارعة جميلة ضامرة الحشا , اسمها ( ألوت وتعني الكلمة في لغة الدينكا بنت الغيم أو الغمام , أو بنت الرذاذ , فولدت ولدا صغيرا بأسنان تامة ثم قالت للخلق من حولها : هذا الولد جاء معي من السماء , وإذا أردتم أن يتكلم , أحضروا ثيرانا بيضاء فاذبحوها التماسا للكرامة وسط جمع غفير من الناس , سيتكلم كما تحبون , وعندما ذبحوا الذبائح , كما أشارت عليهم المرأة القادمة من السماء , وأقيمت الشعائر انهمرت أمطار غزيرة ثانية لتصعد عبرها ألوت إلي السموات العلي , وتترك الولد المعجزة ( دينج دين ) يكلم الناس ويأمرهم بأن يجعل كل فرد منهم , ممن يملكون الأبقار عددا منها وقفا عليه تحمل اسم ( دينج دين ) يحرم التصرف فيها بالبيع والشراء , لكن يجوز الاستفادة من ألبانها ولحومها أو ذبحها في مواسم الأعياد , أو نزول المطر وجني محصول الذرة .
طبيعة بلاد الدينكا :
تمتاز مناطق بلاد الدينكا بأراضيها المنبسطة ومستنقعاتها الكبيرة التي تمتلئ مياها في أيام الخريف , إلي حد أن في جهات ( بور ) و ( شامي ) يضطر السكان إلي رفع منازلهم عن سطح الأرض بعمد من الخشب لتراكم مياه الأمطار تحتها , أما علي ضفة النيل الشرقية تجاه بور , فان الأرض معشوشبة , وفيها كثير من الخيرات , وأما جنوبها فتغطيه غابات كثيفة تتجمع فيها كل الحيوانات صيفا , مما يجعل هذا الوقت موسما للصيد وتتشقق هذه الأراضي الخضراء في الصيف , فتتكون من تلك الشقوق فجوات واسعة تعوق سير المارة من الإنس والحيوان , لكن تربتها خصبة تصلح لزراعة القطن .
أما شمال غرب بور وشامي , فتقع الأراضي الخاضعة للدينكا في بحر الغزال , إلي حدود بحر العرب , وهي أيضا عبارة عن سهول منبسطة تتخللها غابات كثيفة , وأعشاب كثيرة تعبر ها مجاري المياه التي تكون أنهر عديدة وعلي امتداد هذه الناحية تنتشر الغابات الواسعة ذات الأشجار الكبيرة كالمهوجني والجوقان , وأبي السرج والحرازة وغيرها .
النشاط الاقتصادي:
يعتمد النشاط الاقتصادي في حياة قبيلة الدينكا علي الرعي والزراعة والصيد , فعلي صعيد الرعي نجد أن القبيلة تتوفر علي ثروة حيوانية هائلة , متمثلة في الأبقار والأغنام والضان , وتدخل هذه الثروة في كل عادات القبيلة من زواج وطلاق ومآتم ودية وغرامات .
وأما علي مستوي الزراعة, فيأتي هذا النشاط في المرتبة الثانية بعد الرعي, وتتمثل في الذرة بنوعيها, والفول السوداني والسمسم, واللوبيا, وتتركز المساحات المزروعة عادة حول المنازل والقرى, وتكفي منتجاتها لسد حاجات الأسر عددا من الأشهر فحسب. ويمكن أن نصنف صيد الأسماك في المرتبة الثانية , حيث يتركز أساسا في مناطق التيجان والأنهار والخيران والأودية , ويجفف جزء كبير منها لاستغلاله في أوقات الجفاف ويسمي ( الكجيك ).
الولادة:
تضع المرأة الدينكاوية طفلها الأول في منزل والدها , وتبقي فيه إلي أن يفطم بعد عامين , ومن ثم تعود إلي منزل زوجها وتترك طفلها عند جدته , وعند حضور الأب لرؤية ابنه تقوم الزوجة بنحر شاة إكراما له , ولا يسمي الطفل فور ولادته , بل يتم ذلك بعد عدة أشهر تصل إلي السبعة , ويبرر ذلك بأنه لا يدرك اسمه في الأيام الأولي من ولادته , لذلك لا جدوى من الإسراع بالتسمية , والعادة أن يحمل المواليد أسماء مستمدة من الأسلاف , أو الأحداث التي تقع أثناء الولادة , أو الحيوانات , أو الطوطم الذي تنتمي إليه عائلة الطفل .
وبعد أن يشب الطفل يتم تلقينه شتي ضروب السلوك والخبرات , ومنذ السنوات الأولي يعمل الآباء والأقارب علي إقحام الطفل في العديد من المشاجرات مع أنداده , وذلك لإعداده للمرحلة القادمة من حياته , والتي تعتبر فترة متميزة بالنسبة له . ومثل هذه المشاجرات تستهدف تدريب الطفل علي القتال والمصارعة في سن مبكرة حتى يصبح من المقاتلين الأشداء الذين يعتمد عليهم في المهمات.
مرحلة الرجولة :
عادة ما يقوم أولياء أمور الفتيات باقتلاع الأسنان الأمامية للفك الأسفل إذ يقال أنها تشكل سمة جمالية, كما أنها تساعد علي النطق السليم. تعتبر السنوات ما بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة من أهم المراحل التي يواجه فيها الفتي الدينكاوي التجارب الصعبة في حياته . وهي الفترة التي تحدد فيها مكانته الاجتماعية إذ تعتبر شهادة عبور من مرحلة الطفولة إلي مرحلة الرجولة , فبعد هذه المرحلة قلما يقوم برعي الماشية إلا في أماكن يتوقع أن يكون فيها حيوانات متوحشة , وفي هذه الفترة بالذات يلزم احداث عدد من الجروح الأفقية العميقة في الجبهة , ويتعين علي الفتي أن يتحمل الألم في صمت من دون أن يظهر ما يدل علي ألمه , فهي مقياس تحمله الصعاب التي ستواجهه فيما بعد , لا سيما وأن أقاربه وأصدقاءه يشاهدون هذه العملية ولا تتم هذه المرحلة ( مرحلة الشلوخ ) إلا بعد أن يهاجم هؤلاء الصبية في فجر أحد الأيام أفراد الطبقة العمرية السابقة لهم ويضيقون عليهم الخناق حتى يرموا بأنفسهم في مياه النهر , فإذا ما خرجوا منها أصبحوا متطهرين من وجهة النظر الشعائرية , حيث يزينون سواعدهم ورقابهم بالخرز الملون والأصداف , ويرتدون الثياب المزخرفة , ويزهون في كبرياء ويتنافسون في حلبات الرقص ويصبحون من ( Lung) أي الأحرار .
الزواج:
يؤمن الدينكا بتعدد الزوجات لا يتزوجون من الأقارب , بل يتخيرون الأسر البعيدة المحافظة علي قيم وتقاليد القبيلة . ومتوسط ما يدفع مهرا خمسة عشر بقرة, وخمسة ثيران توزع علي والد الفتاة ووالدتها, ومراسيم الزواج عندهم بسيطة. بينما يبني الرجل منزلا يتكون من كوخ للسكن وأخر للطعام, تعد والدة العروس ما استطاعت جمعه من الخرز لابنتها, وتصنع فراء مطرز الحواشي بالودع. وهنالك عادة ما زالت تمارس إلي يومنا هذا وهي إعداد كأس لبن ليشرب منه الثعبان الأليف الذي يسكن معهم كما تسكن القطط في المنازل.
في يوم الزفاف يجب علي الزوج أن يعد بيت الزوجية لتزف إليه العروس, بعد إقامة الوليمة يأتي العريس ومعه أقاربه ليأخذوا العروس التي تصطحب معها بعض صديقاتها. وعند باب المنزل, تحدث مشادة عنيفة لإدخال العروس إليه, وفي نفس الوقت, تحاول صديقاتها منعها من الدخول, ولا يتم إدخالها في النهاية إلا بعد دفع بعض الهدايا قد تصل إلي أعداد من الماشية لصديقات الفتاة .
كما ذكرنا فإن الوضع المادي للرجل هو الذي يحدد عدد الزوجات اللاتي يمكن الاقتران بهن , ولا تحس المرأة الدينكاوية بأي حزن عندما يتزوج زوجها بأخرى , بل أنها تسعد لأنها سوف يكون لها وضع آخر , حيث يتوجب علي الزوجة الجديدة أن تبدي لها مشاعر التقدير والاحترام لها ولأبنائها , وتقوم بكل المهام التي توكل إليها في المنزل.
عبد الباقي أكول , الذي يسكن الآن في حي مايو جنوب الخرطوم , يبلغ عدد زوجاته 44 زوجة وأولاده أكثر من 160 ولدا وبنتا , وأحد الوزراء الجنوبيون المسلمين قال إنه لا يعرف كل إخوانه لأنهم يزيدون عن الخمسين .
أحد السلاطين الذين دخلوا الإسلام حديثا, قالوا له: ماذا وجدت في الإسلام ؟ فقال لهم: الإسلام دين سلام ومحبة , ولكن هناك ما شغلني فيه , فقالوا له : هل تعتقد أنها المريسة (( الخمر)) ؟ قال لهم : لا , ولكن كيف أخرج للناس وليس عندي سوي أربعة نسوة ؟
الطلاق:
إذا حصل الطلاق , فلا بد من إرجاع المهر إلي الزوج , ولكن إذا كان لهما ولد , فإنه في هذه الحالة يتعين علي المطلق أن يترك للمطلقة قدرا منه نظير تربية ابنه , لكن إذا كان المولود بنتا , فإنه يترك قدرا يزيد عن قيمة المهر , وذلك لأن البنت تجلب البقر , فهي من هذه الناحية أكثر قيمة من الذكر.
المرض:
إذا مرض أحد الدينكاويين , فإنهم يسرعون بالذهاب به إلي أحد الأطباء الشعبيين المعروف عندهم ( بالكجور) لإيمانهم بالسحر وعالم الأرواح , فإذا مرض أحدهم وشفي فذلك لان الكجور استطاع أن يخلصه من الأرواح التي حلت به وأخرج منه السحر , وإذا مات فهذا يعني أن الأرواح التي حلت به شريرة ولا يمكن أن تخرج منه
عالم الأموات امتداد لعالم الأرواح :
عندما يموت أحد أفراد قبيلة الدينكا , يغسل بالماء والصابون , ثم يحلق شعره ( سواء كان رجل أو امرأة ) ثم يلف في ثوب ويحمل علي ( عنقريب ) ليدفن داخل اللواك أو المنزل , بعد أن يصلي عليه حسب ديانته , ثم يوضع داخل القبر علي شقه الأيمن . ويتخذ القبر عند بعض قبائل الدينكا الشكل الدائري , بعرض متر ونصف , وطول متر ونصف تقريبا , وعند البعض الآخر يكون مستطيلا . ثم تقفل فوهته بالخشب ويهال عليه بالتراب , وإذا مات الشاب عازبا , فإن أحد أقاربه يتزوج باسمه ليحمل الأبناء اسم المتوفى .
وكان قبر الميت سابقا يحفر عميقا , ولكن بعد اندماج الدينكا في المجتمع الإسلامي , أصبحوا يقلدون المسلمين في حفر قبورهم .
وعند صباح اليوم الأخير للمأتم , يخرج الجميع إلي مكان دفن الميت ويتحلقون حول القبر, ويأخذ رجل من كبار السن بعض أغصان الشجر ويوقد بها النار , ثم يقوم بضربها علي الأرض , ويردد بعض العبارات , ويعتبر نهاية هذا الطقس بمثابة نهاية جسدية للعلاقة بين الميت وعالم الأحياء , ثم يطلق ( حمل ) لتفترسه الحيوانات المتوحشة , لأنهم يعتقدون أن ذلك يبعد روح المتوفى عن الجحيم .
ولا يعني موت أحدهم أنه قد انتهي وجوده بينهم , ولكن تسير الحياة كالمعتاد , فإذا ترك الميت أولاد فإن ابنه الأكبر يرث زوجاته الأخريات , فيقوم بنكاحهن حتى إذا ما ولدن أبناء , فإنهم ينسبون إلي أبيه وليس له باعتبار أنهم كانوا أصلا لأبيه داخل أرحام زوجاته , إلا أن وفاته – في اعتقادهم – حالت دون خروجهم إلي الحياة .
الميراث:
يكون الابن الأكبر هو المتصرف في الميراث في حالة وفاة أي من الوالدين , فهو المتصرف في ماشية أمه أثناء حياتها , ويقتسم أبناء الزوجات الأخريات ماشية أمهاتهم . ويتم تقسيم الميراث بعد انقضاء ثلاثة أشهر إذا كان الموروث رجلا , وأربعة إذا كانت إمراة . ويدفن مع الميت خروف حي إذا كان سطانا عند دينكا ملواك .
الرقص والغناء:
يختص كل فرع من فروع قبيلة الدينكا بنوع معين من الرقص, وإن كانت جميعها تتشابه في معظم نواحيه , وهو عندهم نوعان : رقص الجنائز , ورقص المناسبات الاجتماعية الأخرى كالقفز والضرب بالأرجل علي الأرض . وتتمثل حياتهم الفنية إن صح هذا التعبير في الأغاني الدينكاوية التي تدور في الغالب حول تمجيد الشجاعة والقوة ووصف الحسان , والتغني بجمال الأبقار , ووصف الملاحم الحربية , وإن أكثر غنائهم منحصر في تشبيه كل عظيم وقوي وجميل بالأبقار أو الثيران , وذلك ناتج عن تأثير البيئة , والحب المفرط للأبقار وتعظيم الثيران .
بيوتهم:
تبني المنازل علي هيئة قطاطي مبنية بالحشائش واللواك للحيوانات , والدينكاويون بحكم ظروفهم الزراعية يسكنون بالقرب من المراعي والمياه الغزيرة كما هو الشأن في التيجان , ويجعلون بعض القطاطي مخازن لمحصولاتهم , ولا يتوفر المنزل الدينكاوي علي الأثاث بالمعني المعروف , ولكنك تجد فيه حرابا وسكاكين وبعض الجلود والأواني الفخارية , وبعض اللبن والأواني المصنوعة من القرع , وتنتشر بينهم عادة تدخين التمباك بالكدوس يستوي في ذلك الذكر والأنثى .
الحياة الدينية:
أغلبية الدينكاويين حتى الآن وثنيون , وبينهم المسلمين والمسيحيين الذين يشكلون أقلية واضحة جدا , والوثني منهم يحلف بالحربة وبالصاعقة والرعد وغيرها من الأشياء الحاملة لمعني القوة والجبروت . لكن الملاحظ في الآونة الأخيرة, أن ظاهرة التدين قد أصبحت أوسع مما كانت عليه من ذي قبل. ( انتهت )
ابن عمر........................................................................................
الكاتب: دفع الله محمد نور
قبيلة الدينكا
تعتبر قبيلة الدينكا من أكبر القبائل السودانية إذ تمثل 11% من مجموع سكان السودان , أي حوالي 3 ملايين نسمة , وتشكل نسبة تتراوح ما بين 40% و 50% من شعب جنوب السودان وهي أكبر المجموعات النيلية.
أصل الدينكا :
ترجع الأساطير أصل الدينكا إلي ( قرنق ) الذي له ولدان هما : ( دينق ) و ( أبيدنق ) حيث يستبشرون بدينق ويعزون له الخير والمطر , وهو أصل القبيلة التي تفرعت بطون . وهناك أسطورة أخري تقول : إن جد الدينكا يسمي ( دينج دين ) وتعني بلغة القبيلة : ( ربنا الكبير ) – زعموا أنه في زمن من الأزمان السحيقة , تلبدت السماء بغيوم كثيفة ولمعان برق , وقصف رعد , وعم ظلام دامس , فانهمرت أمطار غزيرة , وفي لحظة معينة , لمع برق مضي بدد كل الظلمات مصحوبا بصوت وكلام مع انهمار الأمطار والغزيرة , فانزلق من خلال المشهد فتاة ممشوقة القوام , فارعة جميلة ضامرة الحشا , اسمها ( ألوت وتعني الكلمة في لغة الدينكا بنت الغيم أو الغمام , أو بنت الرذاذ , فولدت ولدا صغيرا بأسنان تامة ثم قالت للخلق من حولها : هذا الولد جاء معي من السماء , وإذا أردتم أن يتكلم , أحضروا ثيرانا بيضاء فاذبحوها التماسا للكرامة وسط جمع غفير من الناس , سيتكلم كما تحبون , وعندما ذبحوا الذبائح , كما أشارت عليهم المرأة القادمة من السماء , وأقيمت الشعائر انهمرت أمطار غزيرة ثانية لتصعد عبرها ألوت إلي السموات العلي , وتترك الولد المعجزة ( دينج دين ) يكلم الناس ويأمرهم بأن يجعل كل فرد منهم , ممن يملكون الأبقار عددا منها وقفا عليه تحمل اسم ( دينج دين ) يحرم التصرف فيها بالبيع والشراء , لكن يجوز الاستفادة من ألبانها ولحومها أو ذبحها في مواسم الأعياد , أو نزول المطر وجني محصول الذرة .
طبيعة بلاد الدينكا :
تمتاز مناطق بلاد الدينكا بأراضيها المنبسطة ومستنقعاتها الكبيرة التي تمتلئ مياها في أيام الخريف , إلي حد أن في جهات ( بور ) و ( شامي ) يضطر السكان إلي رفع منازلهم عن سطح الأرض بعمد من الخشب لتراكم مياه الأمطار تحتها , أما علي ضفة النيل الشرقية تجاه بور , فان الأرض معشوشبة , وفيها كثير من الخيرات , وأما جنوبها فتغطيه غابات كثيفة تتجمع فيها كل الحيوانات صيفا , مما يجعل هذا الوقت موسما للصيد وتتشقق هذه الأراضي الخضراء في الصيف , فتتكون من تلك الشقوق فجوات واسعة تعوق سير المارة من الإنس والحيوان , لكن تربتها خصبة تصلح لزراعة القطن .
أما شمال غرب بور وشامي , فتقع الأراضي الخاضعة للدينكا في بحر الغزال , إلي حدود بحر العرب , وهي أيضا عبارة عن سهول منبسطة تتخللها غابات كثيفة , وأعشاب كثيرة تعبر ها مجاري المياه التي تكون أنهر عديدة وعلي امتداد هذه الناحية تنتشر الغابات الواسعة ذات الأشجار الكبيرة كالمهوجني والجوقان , وأبي السرج والحرازة وغيرها .
النشاط الاقتصادي:
يعتمد النشاط الاقتصادي في حياة قبيلة الدينكا علي الرعي والزراعة والصيد , فعلي صعيد الرعي نجد أن القبيلة تتوفر علي ثروة حيوانية هائلة , متمثلة في الأبقار والأغنام والضان , وتدخل هذه الثروة في كل عادات القبيلة من زواج وطلاق ومآتم ودية وغرامات .
وأما علي مستوي الزراعة, فيأتي هذا النشاط في المرتبة الثانية بعد الرعي, وتتمثل في الذرة بنوعيها, والفول السوداني والسمسم, واللوبيا, وتتركز المساحات المزروعة عادة حول المنازل والقرى, وتكفي منتجاتها لسد حاجات الأسر عددا من الأشهر فحسب. ويمكن أن نصنف صيد الأسماك في المرتبة الثانية , حيث يتركز أساسا في مناطق التيجان والأنهار والخيران والأودية , ويجفف جزء كبير منها لاستغلاله في أوقات الجفاف ويسمي ( الكجيك ).
الولادة:
تضع المرأة الدينكاوية طفلها الأول في منزل والدها , وتبقي فيه إلي أن يفطم بعد عامين , ومن ثم تعود إلي منزل زوجها وتترك طفلها عند جدته , وعند حضور الأب لرؤية ابنه تقوم الزوجة بنحر شاة إكراما له , ولا يسمي الطفل فور ولادته , بل يتم ذلك بعد عدة أشهر تصل إلي السبعة , ويبرر ذلك بأنه لا يدرك اسمه في الأيام الأولي من ولادته , لذلك لا جدوى من الإسراع بالتسمية , والعادة أن يحمل المواليد أسماء مستمدة من الأسلاف , أو الأحداث التي تقع أثناء الولادة , أو الحيوانات , أو الطوطم الذي تنتمي إليه عائلة الطفل .
وبعد أن يشب الطفل يتم تلقينه شتي ضروب السلوك والخبرات , ومنذ السنوات الأولي يعمل الآباء والأقارب علي إقحام الطفل في العديد من المشاجرات مع أنداده , وذلك لإعداده للمرحلة القادمة من حياته , والتي تعتبر فترة متميزة بالنسبة له . ومثل هذه المشاجرات تستهدف تدريب الطفل علي القتال والمصارعة في سن مبكرة حتى يصبح من المقاتلين الأشداء الذين يعتمد عليهم في المهمات.
مرحلة الرجولة :
عادة ما يقوم أولياء أمور الفتيات باقتلاع الأسنان الأمامية للفك الأسفل إذ يقال أنها تشكل سمة جمالية, كما أنها تساعد علي النطق السليم. تعتبر السنوات ما بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة من أهم المراحل التي يواجه فيها الفتي الدينكاوي التجارب الصعبة في حياته . وهي الفترة التي تحدد فيها مكانته الاجتماعية إذ تعتبر شهادة عبور من مرحلة الطفولة إلي مرحلة الرجولة , فبعد هذه المرحلة قلما يقوم برعي الماشية إلا في أماكن يتوقع أن يكون فيها حيوانات متوحشة , وفي هذه الفترة بالذات يلزم احداث عدد من الجروح الأفقية العميقة في الجبهة , ويتعين علي الفتي أن يتحمل الألم في صمت من دون أن يظهر ما يدل علي ألمه , فهي مقياس تحمله الصعاب التي ستواجهه فيما بعد , لا سيما وأن أقاربه وأصدقاءه يشاهدون هذه العملية ولا تتم هذه المرحلة ( مرحلة الشلوخ ) إلا بعد أن يهاجم هؤلاء الصبية في فجر أحد الأيام أفراد الطبقة العمرية السابقة لهم ويضيقون عليهم الخناق حتى يرموا بأنفسهم في مياه النهر , فإذا ما خرجوا منها أصبحوا متطهرين من وجهة النظر الشعائرية , حيث يزينون سواعدهم ورقابهم بالخرز الملون والأصداف , ويرتدون الثياب المزخرفة , ويزهون في كبرياء ويتنافسون في حلبات الرقص ويصبحون من ( Lung) أي الأحرار .
الزواج:
يؤمن الدينكا بتعدد الزوجات لا يتزوجون من الأقارب , بل يتخيرون الأسر البعيدة المحافظة علي قيم وتقاليد القبيلة . ومتوسط ما يدفع مهرا خمسة عشر بقرة, وخمسة ثيران توزع علي والد الفتاة ووالدتها, ومراسيم الزواج عندهم بسيطة. بينما يبني الرجل منزلا يتكون من كوخ للسكن وأخر للطعام, تعد والدة العروس ما استطاعت جمعه من الخرز لابنتها, وتصنع فراء مطرز الحواشي بالودع. وهنالك عادة ما زالت تمارس إلي يومنا هذا وهي إعداد كأس لبن ليشرب منه الثعبان الأليف الذي يسكن معهم كما تسكن القطط في المنازل.
في يوم الزفاف يجب علي الزوج أن يعد بيت الزوجية لتزف إليه العروس, بعد إقامة الوليمة يأتي العريس ومعه أقاربه ليأخذوا العروس التي تصطحب معها بعض صديقاتها. وعند باب المنزل, تحدث مشادة عنيفة لإدخال العروس إليه, وفي نفس الوقت, تحاول صديقاتها منعها من الدخول, ولا يتم إدخالها في النهاية إلا بعد دفع بعض الهدايا قد تصل إلي أعداد من الماشية لصديقات الفتاة .
كما ذكرنا فإن الوضع المادي للرجل هو الذي يحدد عدد الزوجات اللاتي يمكن الاقتران بهن , ولا تحس المرأة الدينكاوية بأي حزن عندما يتزوج زوجها بأخرى , بل أنها تسعد لأنها سوف يكون لها وضع آخر , حيث يتوجب علي الزوجة الجديدة أن تبدي لها مشاعر التقدير والاحترام لها ولأبنائها , وتقوم بكل المهام التي توكل إليها في المنزل.
عبد الباقي أكول , الذي يسكن الآن في حي مايو جنوب الخرطوم , يبلغ عدد زوجاته 44 زوجة وأولاده أكثر من 160 ولدا وبنتا , وأحد الوزراء الجنوبيون المسلمين قال إنه لا يعرف كل إخوانه لأنهم يزيدون عن الخمسين .
أحد السلاطين الذين دخلوا الإسلام حديثا, قالوا له: ماذا وجدت في الإسلام ؟ فقال لهم: الإسلام دين سلام ومحبة , ولكن هناك ما شغلني فيه , فقالوا له : هل تعتقد أنها المريسة (( الخمر)) ؟ قال لهم : لا , ولكن كيف أخرج للناس وليس عندي سوي أربعة نسوة ؟
الطلاق:
إذا حصل الطلاق , فلا بد من إرجاع المهر إلي الزوج , ولكن إذا كان لهما ولد , فإنه في هذه الحالة يتعين علي المطلق أن يترك للمطلقة قدرا منه نظير تربية ابنه , لكن إذا كان المولود بنتا , فإنه يترك قدرا يزيد عن قيمة المهر , وذلك لأن البنت تجلب البقر , فهي من هذه الناحية أكثر قيمة من الذكر.
المرض:
إذا مرض أحد الدينكاويين , فإنهم يسرعون بالذهاب به إلي أحد الأطباء الشعبيين المعروف عندهم ( بالكجور) لإيمانهم بالسحر وعالم الأرواح , فإذا مرض أحدهم وشفي فذلك لان الكجور استطاع أن يخلصه من الأرواح التي حلت به وأخرج منه السحر , وإذا مات فهذا يعني أن الأرواح التي حلت به شريرة ولا يمكن أن تخرج منه
عالم الأموات امتداد لعالم الأرواح :
عندما يموت أحد أفراد قبيلة الدينكا , يغسل بالماء والصابون , ثم يحلق شعره ( سواء كان رجل أو امرأة ) ثم يلف في ثوب ويحمل علي ( عنقريب ) ليدفن داخل اللواك أو المنزل , بعد أن يصلي عليه حسب ديانته , ثم يوضع داخل القبر علي شقه الأيمن . ويتخذ القبر عند بعض قبائل الدينكا الشكل الدائري , بعرض متر ونصف , وطول متر ونصف تقريبا , وعند البعض الآخر يكون مستطيلا . ثم تقفل فوهته بالخشب ويهال عليه بالتراب , وإذا مات الشاب عازبا , فإن أحد أقاربه يتزوج باسمه ليحمل الأبناء اسم المتوفى .
وكان قبر الميت سابقا يحفر عميقا , ولكن بعد اندماج الدينكا في المجتمع الإسلامي , أصبحوا يقلدون المسلمين في حفر قبورهم .
وعند صباح اليوم الأخير للمأتم , يخرج الجميع إلي مكان دفن الميت ويتحلقون حول القبر, ويأخذ رجل من كبار السن بعض أغصان الشجر ويوقد بها النار , ثم يقوم بضربها علي الأرض , ويردد بعض العبارات , ويعتبر نهاية هذا الطقس بمثابة نهاية جسدية للعلاقة بين الميت وعالم الأحياء , ثم يطلق ( حمل ) لتفترسه الحيوانات المتوحشة , لأنهم يعتقدون أن ذلك يبعد روح المتوفى عن الجحيم .
ولا يعني موت أحدهم أنه قد انتهي وجوده بينهم , ولكن تسير الحياة كالمعتاد , فإذا ترك الميت أولاد فإن ابنه الأكبر يرث زوجاته الأخريات , فيقوم بنكاحهن حتى إذا ما ولدن أبناء , فإنهم ينسبون إلي أبيه وليس له باعتبار أنهم كانوا أصلا لأبيه داخل أرحام زوجاته , إلا أن وفاته – في اعتقادهم – حالت دون خروجهم إلي الحياة .
الميراث:
يكون الابن الأكبر هو المتصرف في الميراث في حالة وفاة أي من الوالدين , فهو المتصرف في ماشية أمه أثناء حياتها , ويقتسم أبناء الزوجات الأخريات ماشية أمهاتهم . ويتم تقسيم الميراث بعد انقضاء ثلاثة أشهر إذا كان الموروث رجلا , وأربعة إذا كانت إمراة . ويدفن مع الميت خروف حي إذا كان سطانا عند دينكا ملواك .
الرقص والغناء:
يختص كل فرع من فروع قبيلة الدينكا بنوع معين من الرقص, وإن كانت جميعها تتشابه في معظم نواحيه , وهو عندهم نوعان : رقص الجنائز , ورقص المناسبات الاجتماعية الأخرى كالقفز والضرب بالأرجل علي الأرض . وتتمثل حياتهم الفنية إن صح هذا التعبير في الأغاني الدينكاوية التي تدور في الغالب حول تمجيد الشجاعة والقوة ووصف الحسان , والتغني بجمال الأبقار , ووصف الملاحم الحربية , وإن أكثر غنائهم منحصر في تشبيه كل عظيم وقوي وجميل بالأبقار أو الثيران , وذلك ناتج عن تأثير البيئة , والحب المفرط للأبقار وتعظيم الثيران .
بيوتهم:
تبني المنازل علي هيئة قطاطي مبنية بالحشائش واللواك للحيوانات , والدينكاويون بحكم ظروفهم الزراعية يسكنون بالقرب من المراعي والمياه الغزيرة كما هو الشأن في التيجان , ويجعلون بعض القطاطي مخازن لمحصولاتهم , ولا يتوفر المنزل الدينكاوي علي الأثاث بالمعني المعروف , ولكنك تجد فيه حرابا وسكاكين وبعض الجلود والأواني الفخارية , وبعض اللبن والأواني المصنوعة من القرع , وتنتشر بينهم عادة تدخين التمباك بالكدوس يستوي في ذلك الذكر والأنثى .
الحياة الدينية:
أغلبية الدينكاويين حتى الآن وثنيون , وبينهم المسلمين والمسيحيين الذين يشكلون أقلية واضحة جدا , والوثني منهم يحلف بالحربة وبالصاعقة والرعد وغيرها من الأشياء الحاملة لمعني القوة والجبروت . لكن الملاحظ في الآونة الأخيرة, أن ظاهرة التدين قد أصبحت أوسع مما كانت عليه من ذي قبل. ( انتهت )
ابن عمر........................................................................................